فصل: ذكر ملك التتر مراغة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر ملك علاء الدين أرزن الروم:

قد ذكرنا أن صاحب أرزن الروم كان مع جلال الدين على خلاط، ولم يزل معه، وشهد معه المصاف المذكور، فلما انهزم جلال الدين أخذ صاحب أرزن الروم أسيراً، فأحضر عند علاء الدين كيقباذ ابن عمه، فأخذه، وقصد أرزن الروم، فسلمها صاحبها إليه وهي وما يتبعها من القلاع والخزائن وغيرها، فكان كما قيل: خرجت النعامة تطلب قرنين، فعادت بلا أذنين.
وهكذا المسكين جاء إلى جلال الدين يطلب الزيادة، فوعده بشيء من بلاد علاء الدين، فأخذ ماله وما بيديه من البلاد وبقي أسيراً، فسبحانه من لا يزول ملكه.

.ذكر الصلح بين الأشرف وعلاء الدين وبين جلال الدين:

لما عاد الأشرف إلى خلاط، ومضى جلال الدين منهزماً إلى خوي، ترددت الرسل بينهما، فاصطلحوا كل منهم على ما بيده، واستقرت القواعد على ذلك، وتحالفا، فلما استقر الصلح وجرت الأيمان عاد الأشرف إلى سنجار، وسار منها إلى دمشق، فأقام جلال الدين ببلاده من أذربيجان إلى أن خرج عليه التتر، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.

.ذكر ملك شهاب الدين غازي مدينة أرزن:

كان حسام الدين صاحب مدينة أرزن من ديار بكر لم يزل مصاحباً للملك الأشرف، مشاهداً جميع حروبه وحوادثه، وينفق أمواله في طاعته، ويبذل نفسه وعساكره في مساعدته، فهو يعادي أعداءه، ويوالي أولياءه.
ومن جملة موافقته أنه كان في خلاط لما حصرها جلال الدين، فأسره جلال الدين، وأراد أن يأخذ منه مدينة أرزن، فقيل له: إن هذا من بيت قديم عريق في الملك، وإنه ورث أرزن هذه من أسلافه، وكان لهم سواها من البلاد فخرج الجميع من أيديهم؛ فعطف عليه ورق له، وأبقى عليه مدينة، وأخذ عليه العهود والمواثيق أنه لا يقاتله.
فلما جاء الملك الأشرف وعلاء الدين محاربين لجلال الدين لم يحضر معهم في الحرب، فلما انهزم جلال الدين سار شهاب الدين غازي ابن الملك العادل، وهو أخو الأشرف، وله مدينة ميافارقين، ومدينة حاني، وهو بمدينة أرزن، فحصره بها، ثم ملكها صلحاً، وعوضه عنها بمدينة حاني من ديار بكر.
وحسام الدين هذا نعم الرجل، حسن السيرة، كريم، جواد، لا يخلو بابه من جماعة يردون إليه يستمنحونه، وسيرته جميلة في ولايته ورعيته، وهو من بيت قديم يقال له بيت طغان أسلان، كان له مع أرزن بدليس ووسطان وغيرهما، ويقال لهم بيت الأحدب، وهذه البلاد معهم من أيام ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي، فأخذ بكتمر صاحب خلاط منهم بدليس، أخذها من عم حسام الدين هذا، لأنه كان موافقاً لصلاح الدين يوسف بن أيوب، فقصده بكتمر لذلك، وبقيت أرزن بيد هذا إلى الآن، فأخذت منه، ولكل أول آخر، فسبحان من لا أول له ولا آخر لبقائه.

.ذكر ملك سونج قشيالوا قلعة رويندر:

وفي هذه السنة ظهر أمير من أمراء التركمان اسمه سونج، ولقبه شمس الدين، واسم قبيلته قشيالوا، وقوي أمره، وقطع الطريق، وكثر جمعه، وكان بين إربل وهمذان، وهو ومن معه يقطعون الطريق، ويفسدون في الأرض، ثم إنه تعدى إلى قلعة منيعة اسمها سارو، وهي لمظفر الدين، من أعمال إربل، فأخذها وقتل عندها أميراً كبيراً من أمراء مظفر الدين، فجمع مظفر الدين، وأراد استعادتها منه، فلم يمكنه لحصانتها، ولكثرة الجموع مع هذا الرجل، فاصطلحا على ترك القلعة بيده.
وكان عسكر لجلال الدين بن خوارزم شاه يحصرون قلعة رويندز، وهي من قلاع أذربيجان، من أحصن القلاع وأمنعها، لا يوجد مثلها، وقد طال الحصار على من بها فأذعنوا بالتسليم، فأرسل جلال الدين بعض خواص أصحابه وثقاته ليتسلهما وأرسل معه الخلع والمال لمن بها، فلما صعد ذلك القاصد إلى القلعة وتسلمها أعطى بعض من بالقلعة، ولم يعط البعض واستذلهم وطمع فيهم حيث استولى على الحصن، فلما رأى من لم يأخذ شيئاً من الخلع والمال ما فعل هم أسلوا إلى سونج يطلبونه ليسلموا إليه القلعة، فسار إليهم في أصحابه فسلموها إليه، فسبحان من إذا أراد أمراً سهله.
قلعة رويندز هذه لم تزل تتقاصر عنها قدرة أكابر الملوك وعظمائهم من قديم الزمان وحديثه، وتضرب الأمثال بحصانتها، لما أراد الله سبحانه وتعالى أن يملكها هذا الرجل الضعفيف سهل له الأمور، فملكها بغير قتال ولا تعب، وأزال عنها أصحاب مثل جلال الدين الذي كل ملوك الأرض تهابه وتخافه، وكان أصحاب جلال الدين، كما قيل: رب ساع لقاعد.
فلما ملكها سونج طمع في غيرها، ولا سيما مع اشتغال جلال الدين بما أصابه من الهزيمة ومجيء التتر، فنزل من القلعة إلى مراغة، وهي قريب منها، فحصرها، فأتاه سهم غرب فقتله، فلما قتل ملك رويندز أخوه، ثم إن هذا الأخ الثاني نزل من القعلة، وقصد أعمال تبريز ونهبها، وعاد إلى القلعة ليجعل فيها من ذلك النهب والغنيمة ذخيرة خوفاً من التتر، وكانوا قد خرجوا؛ فصادفه طائفة من التتر، فقتلوه وأخذوا ما معه من النهب؛ ولما قتل ملك القلعة ابن أخت له، وكان هذا جميعه في مدة سنتين، فأف لدنيا لا تزال فرحة بترحة، وكل حسنة بسيئة. ثم دخلت:

.سنة ثمان وعشرين وستمائة:

.ذكر خروج التتر إلى أذربيجان وما كان منهم:

في هذه السنة وصل التتر من بلاد ما وراء النهر إلى أذربيجان، وقد ذكرنا قبل كيف ملكوا ما وراء النهر، وما صنعوه بخراسان وغيرها من البلاد، من النهب، والتخريب، والقتل، واستقر ملكهم بما وراء النهر، وعادت بلاد ما وراء النهر فانغمرت، وعمروا مدينة تقارب مدينة خوارزم عظيمة، وبقيت مدن خراسان خراباً لا يجسر أحد من المسلين أن يسكنها.
وأما التتر فكانوا تغير كل قليل طائفة منهم ينهبون ما يرونه بها، فالبلاد خاوية على عروشها، فلم يزالوا كذلك إلى أن ظهر منهم طائفة سنة خمس وعشرين، فكان بينهم وبين جلال الدين ما ذكرناه، وبقوا كذلك، فلما كان الآن، وانهزم جلال الدين من علاء الدين كيقباذ ومن الأشرف، كما ذكرناه سنة سبع وعشرين، أرسل مقدم الإسماعيلية الملاحدة إلى التتر يعرفهم ضعف جلال الدين بالهزيمة الكائنة عليه، ويحثهم على قصده عقيب الضعف، ويضمن لهم الظفر به للوهن الذي صار إليه.
وكان جلال الدين سيء السيرة، قبيح التدبير لملكه، لم يترك أحداً من الملوك المجاورين له إلا عاداه، ونازعه الملك، وأساء مجاورته، فمن ذلك أنه أول ما ظهر في أصفهان وجمع العساكر قصد خوزستان، فحصر مدينة ششتر، وهي للخليفة، وسار إلى دقوقا فنهبها، وقتل فيها فأكثر، وهي للخليفة أيضاً، ثم ملك أذربيجان، وهي لأوزبك، وقصد الكرج وهزمهم وعاداهم، ثم عادى الملك الأشرف، صاح خلاط، ثم عادى علاء الدين، صاحب بلاد الروم، وعادى الإسماعيلية، ونهب بلادهم، وقتل فيهم فأكثر، وقرر عليهم وظيفة من المال كل سنة، وكذلك غيرهم، فكل من الملوك تخلى عنه، ولم يأخذ بيده.
فلما وصل كتب مقدم الإسماعيلية إلى التتر يستدعيهم إلى قصد جلال الدين بادر طائفة منهم فدخلوا بلادهم واستولوا على الري وهمذان وما بينهما من البلاد، ثم قصدوا أذربيجان فخربوا ونهبوا وقتلوا من ظفروا به من أهلها؛ وجلال الدين لا يقدم على أن يلقاهم، ولا يقدر أن يمنعهم عن البلاد، قد ملئ رعباً وخوفاً، وانضاف إلى ذلك أن عسكره اختلفوا عليه، وخرج وزيره عن طاعته في طائفة كثيرة من العسكر.
وكان السبب غريباً أظهر من قلة عقل جلال الدين ما لم يسمع بمثله، وذلك أنه كان له خادم خصي، وكان جلال الدين يهواه، واسمه قلج، فاتفق أن الخادم مات، فأظهر من الهلع والجزع عليه ما لم يسمع بمثله، ولا لمجنون ليلى، وأمر الجند والأمراء أن يمشوا في جنازته رجالة، وكان موته بموضع بينه وبين تبريز عدة فراسخ، فمشى الناس رجالة، ومشى بعض الطريق راجلاً، فألزمه أمراؤه ووزيره بالركوب، فلما وصل إلى تبريز أرسل إلى أهل البلد، فأمرهم بالخروج عن البلد لتلقي تابوت الخادم، ففعلوا، فأنكر عليهم حيث لم يبعدوا، ولم يظهروا من الحزن والبكاء أكثر مما فعلوا، وأراد معاقبتهم على ذلك فشفع فيهم أمراؤه فتركهم.
ثم لم يدفن ذلك الخصي، وإنما يستصحبه معه حيث سار، وهو يلطم ويبكي، فامتنع من الأكل والشرب، وكان إذا قدم له طعام يقول: احملوا من هذا إلى فلان، يعني الخادم، ولا يتجاسر أحد أن يقول إنه مات، فإنه قيل له مرة إنه مات، فقتل القاتل له ذلك، إنما كانوا يحملون إليه الطعام، ويعودون فيقولون: إنه يقبل الأرض ويقول: إنني الآن أصلح مما كنت؛ فلحق أمراءه من الغيظ والأنفة من هذه الحالة ما حملهم على مفارقة طاعته والانحياز عنه مع وزيره، فبقي حيران لا يدري ما يصنع، ولا سيما لما خرج التتر، فحينئذ دفن الغلام الخصي، وراسل الوزير واستماله وخدعه إلى أن حضر عنده، فلما وصل إليه بقي أياماً وقتله جلال الدين، وهذه نادرة غريبة لم يسمع بمثلها.

.ذكر ملك التتر مراغة:

وفي هذه السنة حصر التتر مراغة من أذربيجان، فامتنع أهلها، ثم أذعن أهلها بالتسليم على أمان طلبوه، فبذلوا لهم الأمان، وتسلموا البلد وقتلوا فيه إلا أنهم لم يكثروا القتل وجعلوا في البلد شحنة، وعظم حينئذ شأن التتر، واشتد خوف الناس منهم بأذربيجان، فالله تعالى ينصر الإسلام والمسلمين نصراً من عنده، فما نرى في ملوك الإسلام من له رغبة في الجهاد، ولا في نصرة الدين، بل كل منهم مقبل على لهوه ولعبه وظلم رعيته، وهذا أخوف عندي من العدو، وقال الله تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} الأنفال: 25.

.ذكر وصول جلال الدين إلى آمد وانهزامه عندها وما كان منه:

لما رأى جلال الدين ما يفعله التتر في بلاد أذربيجان، وأنهم مقيمون بها يقتلون، وينهبون ويأسرون، ويخربون البلاد، ويجبون الأموال، وهم عازمون على قصده، ورأى ما هو عليه من الوهن والضعف، فارق أذربيجان إلى بلاد خلاط، وأرسل إلى النائب بها عن الملك الأشرف يقول له: ما جئنا للحرب ولا للأذى، إنما خوف هذا العدو حملنا على قصد بلادنا.
وكان عازماً على أن يقصد ديار بكر والجزيرة، ويقصد باب الخليفة يستنجده وجميع الملوك على التتر، ويطلب منهم المساعدة على دفعهم، ويحذرهم عاقبة إهمالهم، فوصل إلى خلاط، فبلغه أن التتر يطلبونه، وهم مجدون في أثره، فسار إلى آمد، وجعل له اليزك في عدة مواضع خوفاً من البيات، فجاءت طائفة من التتر يقصون أثره، فوصلوا إليه وهم على غير الطريق الذي فيه اليزك، فأوقعوا به ليلاً وهو بظاهر مدينة آمد، فمضى منهزماً على وجهه، وتفرق من منعه من العسكر وتمزقوا في كل وجه، فأخذوا ما معهم من مال، وسلاح، ودواب، وقصد طائفة منهم نصيبين، والموصل، وسنجار، وإربل وغير ذلك من البلاد، فتخطفهم الملوك والرعايا، وطمع فيهم كل أحد، حتى الفلاح، والكردي، والبدوي، وغيرهم، وانتقم منهم وجازام على سوء صنيعهم، وقبيح فعلهم في خلاط وغيرها، وبما سعوا في الأرض من الفساد، والله لا يحب المفسدين، فازداد جلال الدين ضعفاً إلى ضعفه، ووهناً إلى وهنه بمن تفرق من عسكره، بما جرى عليهم.
فلما فعل التتر بهم ذلك، ومضى منهزماً منهم، دخلوا ديار بكر في طلبه، لأنهم لم يعلموا أين قصد، ولا أي طريق سلك، فسبحان من بدل أمنهم خوفاً، وعزهم ذلاً، وكثرتهم قلة، فتبارك الله رب العالمين الفعال لما يشاء.

.ذكر دخول التتر ديار بكر والجزيرة وما فعلوه في البلاد من الفساد:

لما انهزم جلال الدين من التتر على آمد نهب التتر سواد آمد وأرزن وميافارقين، وقصدوا مدينة أسعرد، فقاتلهم أهلها، فبذل لهم التتر الأمان، فوثقوا منهم واستسلموا، فلما تمكن التتر منهم وضعوا فيهم السيف وقتلوهم حتى كادوا يأتون عليهم، فلم يسلم منهم إلا من اختفى؛ وقليل ما هم.
حكى لي بعض التجار، وكان قد وصل آمد، أنهم حزروا القتلى ما يزيد على خمسة عشرة ألف قتيل، وكان مع هذا التاجر جارية من أسعرد، فذكرت أن سيدها خرج ليقاتل، وكان له أم، فمنعته، ولم يكن لها ولد سواه، فلم يصغ إلى قولها، فمشت معه، فقتلا جميعاً، وورثها ابن أخ للأم فباعها من هذا التاجر، وذكرت من كثرة القتلى أمراً عظيماً، وأن مدة الحصار كانت خمسة أيام.
ثم ساروا منها إلى مدينة طنزة ففعلوا فيها كذلك، وساروا من طنزة إلى واد بالقرب من طنزة يقال له وادي القريشية، فيه مياه جارية، وبساتين كثيرة، والطريق إليه ضيق، فقاتلم أهل القريشية، فمنعوهم عنه، وامتنعوا عليهم، وقتل بينهم كثير، فعاد التتر ولم يبلغوا منهم غرضاً، وساروا في البلاد لا مانع يمنعهم، ولا أحد يقف بين أيديهم، فوصلوا إلى ماردين فنهبوا ما وجدوا من بلدها، واحتمى صاحب ماردين وأهل دنيسر بقلعة ماردين، وغيرهم ممن جاور القلعة احتمى بها أيضاً.
ثم وصلوا إلى نصيبين الجزيرة، فأقاموا عليها بعض نهار، ونهبوا سوادها وقتلوا من ظفروا به، وغلقت أبوابها، فعادوا عنها، ومضوا إلى بلد سنجار، ووصلوا إلى الجبال من أعمال سنجار، فنهبوها ودخلوا إلى الخابور، فوصلوا إلى عرابان، فنهبوا، وقتلوا، وعادوا.
ومضى طائفة منهم على طريق الموصل، فوصل القوم إلى قرية تسمى المؤنسة، وهي على مرحلة من نصيبين، بينها وبين الموصل، فنهبوها واحتمى أهلها وغيرهم بخان فيها، فقتلوا كل من فيه.
وحكي لي عن رجل منهم أنه قال: اختفيت منهم بيت فيه تبن، فلم يظفروا بي، وكنت أراهم من نافذة في البيت، فكانوا إذا أرادوا قتل إنسان، فيقول: لا بالله، فيقتلونه، فلما فرغوا من القرية، ونهبوا ما فيها، وسبوا الحريم، رأيتهم وهم يلعبون على الخيل، ويضحكون، ويغنون بلغتهم بقول: لا بالله.
ومضى طائفة منهم إلى نصيبين الروم، وهي على الفرات، وهي من أعمال آمد، فنهبوها، وقتلوا فيها، ثم عادوا إلى آمد، ثم إلى بلد بدليس، فتحصن أهلها بالقلعة وبالجبال، فقتلوا فيها يسيراً، وأحرقوا المدينة.
وحكى إنسان من أهلها قال: لو كان عندنا خمس مائة فارس لم يسلم من التتر أحد لأن الطريق ضيق بين الجبال، والقليل يقدر على منع الكثير.
ثم ساروا من بدليس إلى خلاط، فحصروا مدينة من أعمال خلاط يقال لها: باكرى، وهي من أحصن البلاد، فملكوها عنوة، وقتلوا كل من بها، وقصدوا مدينة أرجيش من أعمال خلاط، وهي مدينة كبيرة عظيمة، ففعلوا كذلك، وكان هذا في ذي الحجة.
ولقد حكي لي عنهم حكايات يكاد سامعها يكذب بها من الخوف الذي ألقى الله سبحانه وتعالى في قلوب الناس منهم، حتى قيل إن الرجل الواحد منهم كان يدخل القرية أو الدرب وبه جمع كثير من الناس فلا يزال يقتلهم واحداً بعد واحد، لا يتجاسر أحد أن يمد يده إلى ذلك الفارس.
ولقد بلغني أن إنساناً منهم أخذ رجلاً، ولم يكن مع التتري ما يقتله به، فقال له: ضع رأسك على الأرض ولا تبرح؛ فوضع رأسه على الأرض، ومضى التتري فأحضر سيفاً وقتله به.
وحكى لي رجل قال: كنت أنا ومعي سبعة عشر رجلاً في طريق، فجاءنا فارس من التتر وقال لنا حتى يكتف بعضنا بعضاً، فشرع أصحابي يفعلون ما أمرهم، فقلت لهم: هذا واحد فلم لا نقتله ونهرب؟ فقالوا: نخاف. فقلت: هذا يريد قتلكم الساعة، فنحن نقتله، فلعل الله يخلصنا؛ فوالله ما جسر أحد أن يفعل، فأخذت سكيناً وقتلته وهربنا فنجونا، وأمثال هذا كثير.

.وصول طائفة من التتر إلى إربل ودقوقا:

في هذه السنة، في ذي الحجة، وسل طائفة من التتر من أذربيجان إلى أعمال إربل، فقتلوا من على طريقهم من التركمان الإيوانية والأكراد الجوزقان وغيرهم إلى أن دخلوا بلد إربل، فنهبوا القرى، وقتلوا من ظفروا به من أهل تلك الأعمال، وعملوا الأعمال الشنيعة التي لم يسمع بمثلها من غيرهم.
وبرز مظفر الدين، صاحب إربل، في عسكره، واستمد عساكر الموصل فساروا إليه، فلما بلغه عود التتر إلى أذربيجان أقام في بلاده ولم يتبعهم، فوصلوا إلى بلد الكرخيني، وبلد دقوقا، وغير ذلك، وعادوا سالمين لم يذعرهم أحد، ولا وقف في وجوههم فارس.
وهذه مصائب وحوادث لم ير الناس من قديم الزمان وحديثه ما يقاربها، فالله سبحانه وتعالى يلطف بالمسلمين، ويرحمهم، ويرد هذا العدو عنهم، وخرجت هذه السنة ولم نتحقق لجلال الدين خبيراً، ولا نعلم هل قتل، أو اختفى، لم يظهر نفسه خوفاً من التتر، أو فارق البلاد إلى غيرها، والله أعلم.

.ذكر طاعة أهل أذربيجان للتتر:

في أواخر هذه السنة أطاع أهل بلاد أذربيجان جميعها للتتر، وحملوا إليهم الأموال والثياب الخطائي، والخوبي، والعتابي، وغير ذلك، وسبب طاعتهم أن جلال الدين لما انهزم على آمد من التتر، وتفرقت عساكر، وتمزقوا كل ممزق، وتخطفهم الناس، وفعل التتر بديار بكر والجزيرة وإربل وخلاط ما فعلوا، ولم يمنعهم أحد، ولا وقف في وجوههم واقف، وملوك الإسلام منجحرون في الأثقاب، وانضاف إلى هذا انقطاع أخبار جلال الدين، فإنه لم يظهر له خبر، ولا علموا له حالة، سقط في أيديهم، وأذعنوا للتتر بالطاعة، وحملوا إليهم ما طلبوا منهم من الأموال والثياب.
من ذلك مدينة تبريز التي هي أصل بلاد أذربيجان، ومرجع الجميع إليها وإلى من بها، فإن ملك التتر نزل في عساكره بالقرب منها، وأرسل إلى أهلها يدعوهم إلى طاعته، ويتهددهم إن امتنعوا عليه، فأرسلوا إليه المال الكثير، والتحف من أنواع الثياب الإبريسم وغيرها، وكل شيء حتى الخمر، وبذلوا له الطاعة، فأعاد الجواب يشكرهم، ويطلب منهم أن يحضر مقدموهم عنده، فقصده قاضي البلد ورئيسه، وجماعة من أعيان أهله، وتخلف عنهم شمس الدين الطغرائي، وهو الذي يرجع الجميع إليه، إلا أنه لا يظهر شيئاً من ذلك.
فلما حضروا عنده سألهم عن امتناع الطغرائي من الحضور فقالوا؛ إنه رجل منقطع، ما له بالملوك تعلق، ونحن الأصل؛ فسكت ثم طلب أن يحضروا عنده من صناع الثياب الخطائي وغيرها، ليستعمل لملكهم الأعظم، فإن هذا هو من أتباع ذلك الملك، فأحضروا الصناع، فاستعملهم في الذي أرادوا، ووزن أهل تبريز الثمن، وطلب منهم خركاة لملكه أيضاً، فعملوا له خركاة لم يعمل مثلها، وعملوا غشاءها من الأطلس الجيد المزركش، وعملوا من داخلها السمور والقندر، فجاءت عليهم بجملة كثيرة، وقرر عليهم شيئاً من المال كل سنة، وترددت رسلهم إلى ديوان الخلافة وإلى جماعة من الملوك يطلبون منهم أنهم لا ينصرون خوارزم شاه.
ولقد وقفت على كتاب وصل من تاجر من أهل الري في العام الماضي، قبل خروج التتر، فلما وصل التتر إلى الري وأطاعهم أهلها، وساروا إلى أذربيجان، سار هو معهم إلى تبريز، فكتب إلى أصحابه بالموصل يقول: إن الكافر، لعنه الله، ما نقدر نصفه، ولا نذكر جموعه حتى لا تنقطع قلوب المسلمين، فإن الأمر عظيم، ولا تظنوا أن هذه الطائفة التي وصلت إلى نصيبين والخابور، والطائفة الأخرى التي وصلت إلى إربل ودقوقا، كان قصدهم النهب، إنما أرادوا أن يعملوا هل في البلاد من يردهم أم لا، فلما عادوا أخبروا ملكهم بخلو البلاد من مانع ومدافع، وأن البلاد خالية من ملك وعساكر، فقوي طمعهم، وهم في الربيع يقصدونك، وما يبقى عندكم مقام، إلا إن كان في بلد الغرب، فإن عزمهم على قصد البلاد جميعها، فانظروا لأنفسكم.
هذا مضمون الكتاب، فإن لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وأما جلال الدين فإلى آخر سنة ثمان وعشرين لم يظهر له خبر، وكذلك إلى سلخ صفر سنة تسع لم نقف له على حال، والله المستعان.